دبي - مها ماجد - كشف الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة تفاصيل علاقته بسائقه الذي لازمه خمسة وأربعين عاماً، ناعيًا إياه بعد أن توفي أمس الأربعاء بجوار سيارته متأثرًا بالفشل الكلوي.
وجد متوفيًا بجوار السيارة
وفي مقاله المنشور اليوم بصحيفة الجزيرة بعنوان “أخي إسحاق رحمه الله” قال “بن حميد”: “اخترمت المنية أخي، وصديقي، ورفيق الدرب، والعمر: إسحاق بن معمر كلوبالي يوم الأربعاء 21 -10 -1442هـ، وهو في السيارة متجهاً إلى عمله في المطبخ الخيري في مكة المكرمة، حيث وُجد بجوارها، وقد فارق الحياة رحمه الله وغفر له، وصُلِّي عليه فجر يوم الخميس 22 -10 -1442هـ، في المسجد الحرام، ودفن في مقابر المعلاة. وقد أحزنني فراقه جداً، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا.
علاقة تمتد لأكثر من 45 عامًا
وتابع : “علاقتي بهذا الرجل الصالح، الدين، الورع، العفيف، تمتد لأكثر من (45) عاماً، لم نتفارق، ولم يحصل ما يكدر هذه العلاقة، بل كانت الأيام تزيدها رسوخاً وثباتاً، فلله الحمد والمنة”.
وأضاف: “إنني أرى من حقه رحمه الله، أن أدون تاريخ هذه العلاقة التي أعتز بها، حفظاً للحق، وعرفانا بالفضل، وشكراً للنعمة، فقد كنت إماماً في أحد المساجد في مكة المكرمة، وهو مسجد صغير مسجد جماعة لا مسجد جمعة في حي الششة: (أحد أحياء مكة المكرمة)”.
واستطرد قائلًا: “قد بقيت في إمامة هذا المسجد ما يزيد على عشر سنوات، قبل أن أتشرف بالإمامة في المسجد الحرام عام 1404هـ، ثم تحول هذا المسجد إلى مسجد جامع بعد أن قام بعض المحسنين بتوسعته وإعادة بنائه، كنت أصلي في هذا المسجد الصلوات الخمس مع إقامة صلاة التراويح في رمضان”.
شاب إفريقي قوي البنية
وأكمل : “كنت أصلي في هذا المسجد الصلوات الخمس مع إقامة صلاة التراويح في رمضان، وكنت أعقد حلقات تدريس القرآن الكريم لمن يرغبون في تحسين التلاوة من أهل الحي من كبار السن من العرب، وغير العرب، وكان من جملة المنتظمين في هذه الحلقة، والذين يبدون رغبة وشغفًا، وملازمة، هذا الشاب الإفريقي، قوي البنية، مفتول العضلات، وهو يسكن في حينا، ويقوم بتكسير الصخور في بعض الأراضي الجبلية التي يرغب أهلها إقامة مساكن عليها، وكان من اللافت جداً لدى أهل الحي قوته، وشدته، وحسن عمله، وهدوؤه، وأدبه.، وكان من اللافت عندي مواظبته، وسمته، وحياؤه، وإطراقه رأسه وهو يقوم بالتلاوة، والحرص على حسن الإجادة”.
نقل الكفالة
وأشار إلى أن “إسحاق” يعمل تحت كفالة أحد الجيران الفضلاء، ويبدو أنه حصل خلاف بينهما، وفي الغالب أنه من جانب الكفيل لأنه يعرفه رجلاً فاضلاً وفيه صلاح، وديانة، ولكنه تعتريه بعض الحدة في مزاجه، فلعل هذه الحدة جعلته يقول له: “انظر من تنقل كفالتك إليه”،موضحًا أن إسحاق أبدى رغبته في أن ينقل كفالته عنده، وكان وقتها صغيراً في عمله، وفي بيته، وفي حاجته إلى مثل هذا قائلًا: “بيتي في حينه مكون من أب، وأم، وابن، وبنت، فكنت متردداً في قبول ذلك، وقد فاتحت زوجتي أم محمد رحمها الله في ذلك، فأشارت إشارة حازمة وسريعة في قبول ذلك، لأنه معروف عندنا في الحي في جده ونشاطه، وحسن تعامله، ولأنه كان يقدم بعض الخدمة للبيت، فأبديت له الموافقة وتم نقل الكفالة، وبعد فترة قصيرة جاء الكفيل السابق -رحمه الله- مبدياً رغبته في إعادة الرجل إليه، فقلت له الإجراءات النظامية قد تمت، وأحسب أنه من الصعوبة بمكان إعادة ذلك، فكانت هذه بداية العلاقة بهذا الرجل الكريم الصالح”.
وواصل: على مدى هذه الصحبة الطويلة لهذا الرجل الكريم لم يحصل ولله الحمد ما يشوش على هذه العلاقة، فقد كان ملتزماً بعمله، منضبطاً في أدائه، أميناً في مسؤوليته، ومحافظاً على هذه العلاقة، وكنت معتزاً بها وحفياً بها كما أنه رحمه الله، كان حسن العلاقة مع الآخرين، وكل من كان له به علاقة، فلا أعرف أنه اشتكى من أحد، أو أن أحداً اشتكاه إلي، أو ادعى عليه بشيء، مع أن طبيعة الطبقات التي يحتك بها، ويتعامل معها مختلفة، وقد يحصل منها ما يحصل مما هو معروف.
يحمل الحزام الأسود في الكاراتيه
وأوضح أنه رجل شديد القوى، بل إنه يحمل الحزام الأسود في رياضة الدفاع عن النفس من غير سلاح، وهي الرياضة المعروفة برياضية (الكارتيه)، وعادةً من يحمل هذا قد يكون عنده شيء من الاعتداد بنفسه، أو أنه قد يندفع أو يدفع لما يدعوه للدخول في مشكلات، أو منازعات، وأكد: “أعلم عن هذا الرجل الكريم هدوءه، وحياءه، وبعده عن إظهار أي علو أو استعلاء، أو دعاء، مما يجعله يعيش حياة هادئة مسالمة، لم يجر عليه ولله الحمد ما يكدر”.
موقف في السيارة
وبيّن أنه مما يستحق التدوين في علاقته بإسحاق واغتباطه بصحبته ورفقته، أنه كان في أحد الأيام في السيارة، وهو يقودها، وكان ذلك في أيام انتشار التسجيلات الإسلامية، وكان منها تسجيل لشخصية معروفة، سجل فيها سلسلة عن قصص الأنبياء، وعن السيرة النبوية، وعن الصحابة رضي الله عنهم، وأنه ليس حريصاً على متابعة ذلك، إلا حينما يُذكر له بعض الأمور اللافتة، أو التي قد يحتاج المرء إلى سماعها حتى يكون على علم بها فيما إذا سئل عنها، وبخاصة من قبل بعض الشباب الذين يتابعون مثل هذا،قائلًا “كنت في السيارة واستمع إلى شريط لهذا الرجل ذكره لي بعض المتابعين، وهو يتكلم عن بعض ما جرى بين الصحابة، ففوجئت بتعليق سريع من أخي إسحاق رحمه الله مع أنه قليل التدخل، بل قليل الكلام، إلا فيما يخص العمل، أو بعض المطارحات الخفيفة، والمداعبات الممازحة بيني وبينه”.
وأشار إلى أن إسحاق قال: إن الشيوخ عندنا في بلادنا في مالي يقولون هذا الكلام لا ينبغي نشره ولا سماعه، وقد صدق رحمه الله فهذا هو المنهج الحق، وهو منهج أهل السنة والجماعة، وهو السكوت عما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم، وأهل العلم يحفظون فيهم كلمة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: «هذه دماء طهر الله منها سيوفنا فنطهر منها ألسنتا”. فكم كنت مسروراً ومعجباً بهذه الكلمات من إسحاق رحمه الله، مما يدل على فهمه، وصحة، ومعتقده، وتدينه، ونور بصيرته، هذا ما بدا لي من الرجل ولا أزكيه على الله.
أصيب في آخر أيامه بالفشل الكلوي
واختتم بقوله : “إنني على فراقه لحزين، وقد أصيب في آخر أيامه بالفشل الكلوي، فكان يحتاج إلى الغسيل، فكان صابراً محتسباً، في أيام الغسيل يتوقف عن العمل، وقد طلبنا منه أن يستريح، ولا يشق على نفسه، ولكنه أصر على العمل، وقال: إن هذا عمل خيري، وأحب ألا ينقطع عملي عنه، وقد أدركته منيته وهو على متن السيارة متوجهاً إلى المطبخ الخيري”.