مع تطورات جديدة إسرائيل من «شعب الله المختار» إلى فكر الضحية الأبدية: قراءة في العقل الجمعي الإسرائيلي، نقدم لكم كل ما تحتاجون إلى معرفته بشكل شامل ودقيق عن هذه التطورات ليوم الأربعاء 24 سبتمبر 2025 01:08 صباحاً
السفير عمرو حلمي
منذ أكثر من قرن، ومع بروز المشروع الصهيوني كفكرة سياسية، تشكلت داخل المجتمع الإسرائيلي منظومة فكرية شكلت لاحقًا الإطار المرجعي لنظرته إلى ذاته وإلى الآخر، خاصة الشعب الفلسطيني. هذه المنظومة لم تكن مجرد انعكاس للنصوص الدينية القديمة، بل كانت أيضًا نتاج التجربة التاريخية لليهود في أوروبا، بما في ذلك الاضطهاد ومعاداة السامية والهولوكوست، ثم تحولت إلى أيديولوجيا متماسكة صاغت هوية جماعية تتوارثها الأجيال الإسرائيلية حتى اليوم.
من أبرز عناصر هذه الذهنية الاعتقاد العميق بأن اليهود هم “شعب الله المختار”. هذا المعتقد التوراتي، الذي أُعيد توظيفه سياسيًا، خلق إحساسًا بالتفوق الوجودي والأخلاقي، يمنح للإسرائيليين في نظر أنفسهم “الحق المطلق” في السيطرة على الأرض والتصرف كما يشاؤون، حتى على حساب حقوق الشعوب الأخرى. هنا لم يعد الاحتلال مجرد خيار عسكري أو سياسي، بل تحول إلى واجب ديني–تاريخي، يُقدَّم باعتباره امتدادًا لنبوءة سماوية. وقد حذر الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش Yeshayahu Leibowitz مبكرًا من خطورة هذا التوجه، معتبرًا أن استمرار الاحتلال سيحوّل إسرائيل إلى “كيان مهووس بالقوة، فاقد للقيم الأخلاقية والإنسانية”.
إلى جانب هذا الاعتقاد، يبرز البعد الثاني الأكثر فرادة في التجربة الإسرائيلية، وهو تقديم المحتل نفسه كضحية. ففي التاريخ نماذج عديدة لاحتلالات وحشية وطويلة، غير أن الاحتلال الإسرائيلي يتميز بقدرته على تصوير ذاته كضحية أبدية. يستحضر الخطاب الإسرائيلي على الدوام ذاكرة الهولوكوست، ليحوّلها إلى مبرر مفتوح لكل ممارسات القمع والتوسع. وهكذا يصبح الفلسطيني الذي فقد أرضه وبيته هو المعتدي، بينما يظهر الإسرائيلي الغازي في صورة المدافع عن حقه في “الوجود”. وقد أشار المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابِه ILAN PAPPÉ إلى هذا التناقض قائلاً: “نجحت إسرائيل في قلب الصورة بحيث يظهر الضحية الحقيقي (الفلسطيني) في ثوب المعتدي، بينما يظهر الجلاد (المحتل) كضحية مضطهدة تحاول النجاة”.
أما العنصر الثالث والأكثر خطورة فهو التجريد المنهجي للفلسطينيين من إنسانيتهم. فالإسرائيليون، كما يوضح الصحفي جدعون ليفي، تعلّموا أن يروا في الفلسطيني مجرد “خطر كامن”، وأن يتجاهلوا وجوده كإنسان له أحلام وحقوق. يتم تقديم الفلسطينيين في الإعلام والخطاب السياسي باعتبارهم “إرهابيين محتملين” أو “قنبلة ديموغرافية”، ما يسهل تبرير سياسات القتل والتجويع والتهجير والاستيطان والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. إذ حين يُنزَع عن الضحية بُعده الإنساني، يصبح التخلص منه فعلاً مقبولًا أو حتى ضروريًا.
في السنوات الأخيرة، شهدت إسرائيل صعودًا ملحوظًا للتيار الديني المتطرف، الذي يزداد تأثيره في السياسة والمجتمع. يرتكز هذا التيار على تفسير حرفي للتوراة ويؤكد حق اليهود في كل أراضي “إسرائيل التاريخية”، بما فيها الضفة الغربية والقدس الشرقية، معتبرين ذلك وعدًا إلهيًا لا يمكن التنازل عنه. كما يرفض هذا التيار أي تسوية مع الفلسطينيين، ويعتبر قيام الدولة الفلسطينية تهديدًا وجوديًا للدولة اليهودية. ويشمل جماعات عدة، أبرزها الحريديم والمستوطنون المتشددون، الذين يرون أن الشرعية الدينية تمنحهم الحق في السيطرة على الأراضي وتوسيع المستوطنات، وأن الفعل السياسي والعسكري ضد الفلسطينيين هو واجب ديني. وقد أشار الكاتب الإسرائيلي أفي شلايم Avi Shlaim إلى أن هذا التصاعد يعزز خطاب التفوق اليهودي ويجعل احتمالات السلام أكثر صعوبة، إذ يتحول الصراع إلى نزاع مقدس يشمل العقيدة الدينية نفسها، وليس السياسة فقط.
لكن هذه الذهنية لم تكن لتترسخ لولا وجود دعم خارجي قوي، تمثل في الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، وعلى رأسه الدعم الأمريكي. فمنذ قيام الدولة العبرية، شكّلت الولايات المتحدة المظلة السياسية والدبلوماسية والعسكرية التي وفرت لإسرائيل حماية كاملة من أي مساءلة دولية. لم تُفرض على إسرائيل أي عقوبات جدية رغم سجلها الطويل من الانتهاكات، بل تُقدَّم لها مساعدات بمليارات الدولارات سنويًا. وقد وصف المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي Noam Chomsky هذا الوضع قائلاً: “إسرائيل استثناء دائم من القانون الدولي بفضل الدعم الأمريكي، وهو ما يشجعها على المضي في سياسات الاحتلال بلا خوف من المحاسبة”. أما الباحثان جون ميرشايمر John Mearsheimer وستيفن والت Stephen Walt، فقد أشارت أبحاثهما إلى أن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل لا يخدم المصالح الأمريكية والعدالة الدولية.
واتصالًا بذلك، يبرز التحالف الأيديولوجي بين الصهيونية المسيحية الغربية واليهودية السياسية، وهو تحالف يتجاوز البعد السياسي إلى البعد الديني–العقائدي. فالصهيونية المسيحية، المنتشرة بين الطوائف الإنجيلية في الولايات المتحدة، تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل واستمرارها يمثل شرطًا ضروريًا لتحقيق نبوءات “الخلاص” و”المجيء الثاني للمسيح”. وبذلك تصبح إسرائيل في نظر هذه الجماعات تجسيدًا لإرادة إلهية، ويغدو دعمها واجبًا دينيًا قبل أن يكون خيارًا سياسيًا. وقد أوضح ستيفن والت Stephen Walt في دراساته عن الصهيونية المسيحية أن هذه العقيدة “حوّلت النصوص الدينية إلى برنامج سياسي يخدم إسرائيل، ويمنحها شرعية مطلقة أمام ملايين المؤمنين في الغرب”.
وقد وجد هذا التحالف ترجمته العملية في جماعات ضغط قوية داخل الولايات المتحدة، أبرزها منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” (CUFI)، التي أسسها القس جون هيجي Rev. John Hagee عام 2006. تضم المنظمة ملايين الأعضاء، وتعد اليوم واحدة من أقوى جماعات الضغط في واشنطن، وتتمتع بعلاقات وثيقة مع صناع القرار في الحزبين الجمهوري والديمقراطي على السواء. مهمتها الأساسية الدفاع عن إسرائيل في المحافل السياسية والإعلامية، والتصدي لأي محاولات لفرض قيود أو عقوبات عليها. قوتها الحقيقية تكمن في قدرتها على حشد أصوات الإنجيليين الأمريكيين، الذين يشكلون كتلة انتخابية مؤثرة، ما يجعل السياسيين الأمريكيين حريصين على تبني سياسات مؤيدة لإسرائيل بلا حدود. إلى جانب ذلك، يلعب اللوبي اليهودي المعروف باسم “أيباك” (AIPAC) دورًا محورياً في تعزيز النفوذ الإسرائيلي في واشنطن، من خلال الضغط المباشر على الكونغرس والبيت الأبيض لضمان تبني سياسات أمريكية داعمة لإسرائيل، وتمرير مساعدات مالية وعسكرية كبيرة، وتأمين الحصانة الدبلوماسية والسياسية لإسرائيل في المحافل الدولية.
إن تضافر هذه العوامل – من العقيدة الدينية بالاختيار الإلهي، إلى خطاب الضحية الأبدية، إلى نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، ثم الدعم الغربي–المسيحي – يجعل المجتمع الإسرائيلي في حالة دائمة من تبرير الاحتلال والدفاع عنه باعتباره جزءًا طبيعيًا من وجوده و”حقه التاريخي”. لكن هذه الذهنية تحمل في طياتها مأزقًا أخلاقيًا وسياسيًا عميقًا، إذ لا تقود إلا إلى مزيد من العزلة الدولية، وتكريس الصراع المفتوح مع الفلسطينيين والعالم العربي والإسلامي، بدلاً من التحرك نحو تسوية عادلة تقوم على الاعتراف بالآخر. وقد خلص أفي شلايم Avi Shlaim إلى أن استمرار هذه العقلية “سيؤدي في النهاية إلى انكشاف إسرائيل أخلاقيًا، وفقدانها للشرعية في نظر الأجيال الجديدة في الغرب، مهما طال زمن الدعم غير المشروط”.
وفي هذا السياق، يشهد الرأي العام في الدول الغربية تصاعدًا في المعارضة للممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضد الفلسطينيين، ما يمهد لتغييرات محتملة في مواقف الحكومات الغربية التي حاولت، ولا يزال بعضها يحاول، طمس الحقائق وتقديم إسرائيل كواحة للديمقراطية في المنطقة. ومن المهم التأكيد أن هذا النقد لا يُفهم على أنه معاداة للسامية، ولا تبرير للأفعال الإجرامية التي ارتكبتها حركة حماس ضد الإسرائيليين، بل هو محاولة للفصل بين مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية ونقد السياسات، وبين رفض أي شكل من أشكال العنصرية أو الإرهاب.
في نهاية المطاف، يظهر العقل الجمعي الإسرائيلي وكأنه محاط بأسوار من المعتقدات الدينية والذاكرة التاريخية والتحالفات الدولية، ما يجعله منظومة مغلقة تكاد تمنع الرؤية الموضوعية للواقع الفلسطيني. فتصور الذات كـ”شعب الله المختار”، مع تحويل المحتل إلى “الضحية الأبدية”، وتجريد الآخر من إنسانيته، لا يخلق فقط حالة من التبرير الداخلي للسياسات الاستيطانية والقمعية، بل يغلق الباب أمام أي حوار أو تسوية سلمية ممكنة. وفي ظل الدعم الغربي، وخصوصًا الأمريكي، والتحالفات الأيديولوجية مع الصهيونية المسيحية، تصبح السياسات الإسرائيلية في مأمن من المساءلة، ما يرسخ دائرة الصراع المستمرة ويزيد من هشاشة الحلول المستقبلية.
هنا يبرز التساؤل الأخلاقي العميق: كيف يمكن لمجتمع أن يبرر الاحتلال ويقدّسه، بينما يرفض الاعتراف بالآخر كإنسان متساوٍ له في الحقوق؟ الإجابة على هذا السؤال لا تتعلق بالإسرائيليين فقط، بل بالقوى الغربية التي تراقب وتشارك بشكل أو آخر في استمرار هذا الواقع. وقد يكون الفهم النقدي لهذا العقل الجمعي، والإدراك لأبعاد التحالفات والدعم الغربي، خطوة أولى نحو تفكيك الأسوار الفكرية، وفتح المجال لإعادة التفكير في مدي احترام القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان وقيم العدالة والمساواة، وفي احتمالات السلام الممكنة.
للحصول على تفاصيل إضافية حول إسرائيل من «شعب الله المختار» إلى فكر الضحية الأبدية: قراءة في العقل الجمعي الإسرائيلي - الخليج الان وغيره من الأخبار، تابعونا أولًا بأول.
أخبار متعلقة :