مع تطورات جديدة ياسر حمدي يكتب: ليلة استشهاد الصحافة في غزة، نقدم لكم كل ما تحتاجون إلى معرفته بشكل شامل ودقيق عن هذه التطورات ليوم الجمعة 15 أغسطس 2025 09:03 مساءً
في مشهد جديد ومتكرر من الانتهاكات المروّعة بحق الصحافة والحقيقة، شهدت غزة جريمة أخرى تُضاف إلى السجل الحافل للجيش الإسرائيلي، بعد أن استهدفت غارة جوية منذ أيام خيمة قرب مستشفى الشفاء، لتقتل عدداً من صحفيى قناة الجزيرة، وعلى رأسهم المراسل أنس الشريف، والمراسل محمد قريقع، والمصوران إبراهيم زاهر ومحمد نوفل، إلى جانب مدنيين آخرين.
رحلوا ولم تكن في أيديهم إلا الكاميرا والميكروفون، أدوات الصحفي التي تحولت في عيون الإحتلال الإسرائيلي المجرم إلى «سلاح»، إذ يستهدف العدو تصفية الصحافة في غزة، والحقيقة أننا أصبحنا فلسطينيين بإرادتنا دعمًا للحق الفلسطيني على أرضه المحتلة؛ كانوا في خيمة قرب مجمع الشفاء الطبي، يوثقون الموت بالحقيقة، فلم تترك لهم القذائف فرصة للهرب.. ارتفعت أرواحهم، وبقيت الحقيقة يتيمة.
أنس الشريف، ابن غزة الذي لم يكمل عامه التاسع والعشرين، لم يكن يغطي الأحداث فحسب، بل كان يسكنها، كان يحمل في قلبه مساحة لكل وجع، لكل أم شهيد، ولكل طفل فقد بيته، لم يكن أنس صحفيًا عاديًا، بل كان شريانًا إعلاميًا نابضًا لغزة بأكملها، صوته، لغته، وطريقة سرده للقصص من تحت القصف، جعلته أقرب إلى كل بيت، لا في فلسطين وحدها، بل في كل بيت عربي شعر أن أنس «واحد منهم».
محمد قريقع، رفيقه في الميدان، صحفيًا شابًا حمل قلمه كمن يحمل راية، كان يسابق القصف، يوثق الكلمة، ويروي التفاصيل التي يخاف منها القتلة، كتب تقاريرًا من قلب الجحيم، وقف حيث يخشى الآخرون، وأصر أن تبقى الحقيقة حية رغم دخان الحرب.
هكذا تكتب البطولات في غزة، ليس على جدران المدارس، بل على أكفان الصحفيين، وفي ركام المستشفيات، وعلى وجوه الناس الذين يعرفون أن نقل الحقيقة قد يكلف حياتك، لكنه أعظم ما يمكن أن تفعله لأجلك ولأجل وطنك.
أنس كتب وصيته قبل أن يغادرنا، وصية لا تحمل رائحة الوداع بل نفس الإصرار، قال فيها: «التغطية ستستمر، سواء بوجود أنس أو بدونه».. لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت وعدًا علقه في رقابنا جميعًا، لم يكن يودع، بل كان يعلمنا كيف تبقى الحقيقة حية حتى حين يغتال حاملوها، تلك الجملة لم تكن ختامًا، بل بدايةً لصوت لن ينكسر بعد استشهاده، لم تغلق الكاميرات، بل صارت كل عدسة ترددها، وكل صحفي يهمس بها لمن يريد أن يسير في درب الحقيقة.. حتى النهاية.
ولم ينس أنس، في وصيته، أن يوصى بابنته الصغيرة شام، وابنه الرضيع صلاح، الذين لن يعرفوه إلا من الصور والصوت، لكنه أراد أن يترك لهم ذكرى مشرفة، يفتخرون بها حين يكبرون، ويعلمون أن والدهم مات من أجل أن يعرف العالم الحقيقة عن أرضهم.
وحين رأيت وجه أنس في الصورة الأخيرة.. بكيت، بكيت وكأنه أخي، شيء في ملامحه هزني من الداخل، وكأن روحه كانت تهمس لكل من يشاهده، «لا تنسوني»، لم أتمالك نفسي، كنت أظن معتاد على أخبار الشهداء، لكن أنس كان مختلفًا، كان قريبًا، يشبهنا، يشبه أحلامنا حين تقصف، ويشبه الحقيقة حين تستشهد.
في مصر، لم يكن أنس غريبًا، كان صوتًا نعرفه وننتظره، صوره غزت وسائل التواصل، وتحولت مشاعر المصريين من المتابعة إلى الحداد، ومن المشاهدة إلى الحزن الشخصي، كتب الناس عنه وكأنهم فقدوا شقيقًا، خرجت دموع الإعلاميين على الهواء، وحزنت الأمهات كما لو كن فقدن ابنًا من رحمهن.
أما العالم، فمارس صمته المعتاد، صدرت إدانات دبلوماسية باهتة، لا تحمل حرارة الفقد، ولا وجع الدم، لكن وسط هذا الجليد، خرجت بعض الأصوات النبيلة، دعوات لمحاسبة إسرائيل، وضغوط جديدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، خطوات لا تزال خجولة، لكنها تعبر عن شيء من التأخر في إدراك العدالة إن أدركت.
منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر، ارتفع عدد الصحفيين الذين قتلتهم إسرائيل إلى 238 صحفيًا، في واحدة من أبشع الحروب ضد الكلمة والصورة، وضد من يصرون على أن يروا العالم الحقيقة من تحت الركام.
اليوم، لا نملك لأنس ومحمد وزملائهما إلا أن نحفظ إرثهم، لا بالصمت، بل بأن نكمل الطريق، طريق الكلمة، طريق الصورة، طريق الصوت الذي لا يموت حتى لو سقط الجسد.
حين أتحدث عن أنس ومحمد، لا أكتب عن صحفيين فقط، أكتب عن وجه غزة، عن بوصلة الشرف، عن وعد بقى في عيون الكاميرات التي توقفت، لكنه لا يزال حيًا في عيوننا، أنس لم يستهدف للمرة الأولى، لكنه في المرة الأخيرة غادرنا، وبقيت صورته محفورة في الوجدان.
استهداف أنس الشريف لحظة فاصلة في هذه الحرب، لحظة تكشف إلى أي مدى يمكن للعدالة أن تكون غامضة.. صدقوني، التاريخ لن يرحم، كما لن ينسى أسماء من خاطروا بحياتهم كي تبقى الحقيقة حية.. السلام على من حملوا الكاميرا كأنها بندقية، وعلى من آمنوا أن الحقيقة تستحق أن نموت لأجلها، ليحيا الناس بها.
للحصول على تفاصيل إضافية حول ياسر حمدي يكتب: ليلة استشهاد الصحافة في غزة - الخليج الان وغيره من الأخبار، تابعونا أولًا بأول.
أخبار متعلقة :