محمد الرخا - دبي - السبت 27 أبريل 2024 01:06 مساءً - هي واحدة من أقدم مدن مملكة إسبانيا، بل والقارة الأوروبية التي يفوح التاريخ كعطر أخاذ من دروبها ويطل الماضي شامخًا على طرقها وساحاتها. وضع الإغريق حجر الأساس فيها ومنحها الرومان بصمة حضارية لا تخطئها العين، أما العرب فجعلوها حاضرة للعلوم والثقافة. عُرفت في القرون الوسطى باسم "مدينة التسامح" واعتُبرت تاريخيا رمزا حيًا للتعايش بين مختلف الثقافات والأديان.
بسبب طبيعة تضاريسها الصخرية ودروبها الوعرة، تحولت مدينة طليطلة، أو "توليدو" بالإسبانية، إلى ما يشبه حصنًا منيعًا على مرّ الزمان؛ إذ ترتفع فوق سطح البحر 529 مترًا، ويحيط بها نهر "تاخو"، أو تاجة بحسب التسمية العربية لاحقا، كما لو كان سوارًا حول معصم سيدة جميلة يريد حمايتها من أعداء محتملين. ورغم ذلك، يدهش زوارها حاليًا هذا الكم من الحصون الحربية والقلاع والأسوار، فضلًا عن المساجد والكاتدرائيات والمعابد والقصور ذات الطرز المعمارية الفريدة التي تعود إلى أزمنة قديمة.
توجد شواهد قوية على أنّ تاريخ المدينة يعود إلى "العصر البرونزي" الذي يمتد في الفترة من 3300 إلى 1200 قبل الميلاد، وتميز بتطور حضاري في مجال التعدين وصهر النحاس. ورغم أنه لا يوجد الكثير من المعلومات عن سيرة المدينة الأولى تحت النفوذ الإغريقي، إلا أنه من المؤكد أنها شهدت انطلاقة كبرى على يد الرومان الذين شيدوا الحصون والجسور والمسارح بها منذ أن غزاها القائد "ماركوس فلافيوس نوبليور" قبل الميلاد بنحو قرنين. ووردت المدينة باسمها اللاتيني القديم "توليتوم"، أو "توليدوث"، والذي اشتق منه اسم "توليدو" بمعنى "المدينة الحصينة"، في كتابات مؤرخي ذلك العصر.
دخلت التاريخ من أوسع أبوابه حين نجح "ليوفيجيلدو" هو وخلفاؤه في توحيد شبه الجزيرة الأيبرية متخذين من طليطلة عاصمة لحكمهم ورمزا لحضارتهم منذ العام 534 م. بعد أقل من قرنين من دخول ملك القوط، نجح العرب في إعادة رسم ملامح المدينة حضاريًا، حيث خضعت لنفوذهم ضمن بلاد الأندلس على مدار نحو أربعة قرون. ورغم أنهم لم يتخذوها عاصمة للحكم كما فعلوا مع مدن أخرى مثل إشبيلية أو قرطبة على سبيل المثال، إلا أنها لقيت من عنايتهم ما جعلها عاصمة النهضة الحضارية بالبلاد.
وشهدت النسخة العربية من المدينة الجميلة ثراءً لافتا في فن المعمار وعلوم الهندسة والزراعة، وهو ما تمثل في تشييد المساجد والحمامات الشعبية وقنوات الري واستنباط محاصيل جديدة وانتشار للبساتين بشكل غير مسبوق، فضلاً عن ازدهار العديد من الصناعات مثل النسيج والسيوف. وكانت طليطلة إحدى البوابات الرئيسة التي عبرت منها تراجم العرب وشروحاتهم للفلسفة الإغريقية القديمة إلى أوروبا، لتساهم القرائح العربية في مد بعض خيوط النور إلى القارة العجوز في العصور الوسطى التي كانت بمثابة "العصور المظلمة" عليها.
ويجمع اليوم الطراز المعماري، بشقيه العربي والقوطي، في المدينة بين العديد من المعالم السياحية في سبيكة حضارية فريدة من نوعها، كما في الكثير من المساجد والكنائس وكذلك "ألكازار" أو "القصر"، الذي يعود إلى الحقبة الرومانية لكن تم إعادة تأهليه كحصن حجري منيع في عصور لاحقة عديدة وفق أساليب معمارية جديدة. وهناك كذلك جسر "القنطرة" الذي بناه العرب فوق نهر "تاخو" ويثير دهشة الزوار حتى قيل في كتابات بعض المؤرخين إنه "يستحيل وصفه" من فرط جماله.