محمد الرخا - دبي - الأحد 7 أبريل 2024 11:22 صباحاً - عندما دخلتها قوات العرب لأول مرة في أعقاب فتح ما عُرف لاحقا ببلاد الأندلس في 711 م، انبهروا بخضرة السهول الممتدة وكثرة الحدائق واعتدال المناخ في المدينة التي ترتفع مئات الأمتار فوق سطح البحر. وفتنهم منظر قمم الجبال المتوجة بالثلوج وغزارة المياه النقية وروعة النهر الذي يخترقها والبحر الذي تطل على سواحله. بحث العرب في مخيلتهم عن جمال يضاهي هذا الجمال فلم يجدوا سوى دمشق عاصمة الحكم الأموي آنذاك فأطلقوا عليها " دمشق الأندلس".
إنها غرناطة التي تعد زهرة الجنوب الإسباني ودرة التاج في العصر الأندلسي المهيب. يقول عنها "الشقندي" صاحب رسالة "تفضيل الأندلس": "أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخلُ من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل. ولو لم يكن لها إلا ما خصّها الله تعالى به من المرج الطويل العريض ونهر شُنيل لكفاها. وتسمى كورة إلبيرة التي منها غرناطة دمشق، لأن جند دمشق نزلوها عند الفتح، وقيل: وإنما سميت بذلك لشبهها بدمشق في غزارة الأنهار، وكثرة الأشجار".
ويحيط الغموض إلى حد ما بالتاريخ المبكر للمدينة والأرجح أنها كانت واحدة من مستعمرات القبائل الإيبيرية وحملت اسم " إلبيريس" ثم أسس الإغريق مستعمرة بها في القرن الخامس قبل الميلاد تحت مسمى قريب من ذلك. وحين خضعت إلى النفوذ الروماني أطلقوا عليها اسم " فلورينتينا " أي "المدينة المزدهرة".
وظلت المدينة تسمى "إلبيرة" حتى منتصف القرن الثامن الميلادي وعُرفت باسمها الحالي في عهد الحكم العربي الذي دام بها قرونا عديدة وهو مشتق من الأصل اللاتيني "غرنتيوم" ويعني " الرمانة". والسبب وراء هذا الاسم يعود فيما يبدو لجمالها ولكثرة حدائق الرمان بها. وقيل إنها سميت بغرناطة لأنها أنشئت على البقعة التي زُرع فيها الرمان لأول مرة عند نقله من إفريقية "تونس" إليها، وقيل أيضاً إنها سميت كذلك لأنها بموقعها وإطلالتها على التلال تشبه الرمانة المشقوقة.
ويقول " المقري" في تاريخه: "ومن أشهر بلاد الأندلس غرناطة، وقيل: إن الصواب أغرناطة -بالهمز- ومعناه بلغتهم الرّمّانة، وكفاها شرفا ولادة لسان الدين بها" ويقصد لسان الدين بن الخطيب، الفيلسوف والأديب والوزير، أحد أشهر شخصيات الأندلس التي جمعت بين الأدب والسياسة والسيف والقلم.
فن العمارة
وازدهرت الحضارة العربية في المدينة على نحو غير مسبوق لا سيما في العمارة والمساجد والقصور والقلاع فضلا عن الصناعة والزراعة وكذلك الفنون والأدب لاسيما في عصر "بني الأحمر". وفي ذلك يقول المؤرخون: "ولما غدت غرناطة عاصمة ابن الأحمر من دولة بني نصر بالسيف تارة، وبحسن السياسة مع الأحزاب المعادية أو بمحالفة القشتاليين الإسبانيين وبني مرين المراكشيين تارة أخرى، جعلها العرب الذين طُردوا من المدن المجاورة وطنًا لهم، ونشّط ملوكها الصنائع والتجارة، وعمروا الطرق والمجاري، وتسلسل ذلك فيها فأتم الثاني ما بدأ به الأول، وزينوا البلاد بأبنية بديعة؛ فأصبحت غرناطة أغنى مدينة في شبه جزيرة أيبيريا، وبحكمة أمرائها انبعثت منها شعلة المدنية المغربية في إسبانيا ، وأصبحت قصورهم مثابة العلماء والأدباء والفلاسفة فصارت المصر المقصود، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود" .
وفي يناير 1492 سلم الملك محمد الثاني عشر، المعروف بأبي عبد الله الصغير، المدينة إلى كل من فريناندو وإيزابيلا الأولى، ملك وملكة قشتالة، لينتهي حكم العرب في الأندلس وفق اتفاقية استسلام عرفت باسم "مرسوم الحمراء".
ولا يزال وجه المدينة يحمل حتى اليوم ملامح الوجود العربي متمثلا في العديد من المعالم الأثرية ذات الشهرة العالمية مثل " قصر الحمراء"، تحفة الفن المعماري الإسلامي الذي يعود تاريخ بناؤه إلى 1238م، ويتميز بحدائقه المدهشة وعمرانه المهيب.
وهناك كذلك "حي البيازين" الذي كان موجودا منذ عصر الرومان، لكن العرب أعادوا تأسيسه ومنحوه هويته الخاصة وروحه الأندلسية بدروبه الملتوية وأزقته الضيقة وبيوته الملونة ورائحة الماضي التي تنبعث بقوة من جنباته.