شجرة الدر.. صعود أسطوري ونهاية مأساوية في "لعبة العروش"

محمد الرخا - دبي - الجمعة 5 أبريل 2024 07:10 مساءً - قصة صعود أسطورية لامرأة بارعة الحسن، شديدة الدهاء، طموحها بلا حدود. انتقلت من مجرد جارية اسمها مقيد بجناح الإماء في قصر الخليفة إلى أول سلطانة في التاريخ الإسلامي تتربع على عرش مصر وتنقش ألقابها على العملات الرسمية.

Advertisements

وعلى عكس البدايات المبهرة في إدارة الأزمات السياسية والمعارك العسكرية، جاءت النهاية مأساوية مكتوبة بحبر الإذلال والإهانة لتنهال عليها الجواري ضربًا بـ"القباقيب" في مشهد قاسٍ ولا إنساني لكنه يليق بمفاجآت الصراع على السلطة وقوانين لعبة لا ترحم اسمها "لعبة العروش".

يرجح المؤرخون أنّ شجرة الدر وُلدت في عام 1230م واختلفوا في أصولها، فمنهم من قال إنها شركسية وقيل بل تركية ويذهب فريق ثالث إلى أنها أرمينية وتم استعبادها حين هاجم المغول غرب آسيا وباعوها ضمن الجواري إلى بعض العائلات الحاكمة مثل الأسرة الأيوبية. والمؤكد أنها قُيدت في قصر الخليفة ببغداد ضمن سجلات الرقيق كفتاة جميلة تقرأ وتكتب وذات صوت حسن.

انتقلت إلى القاهرة في عمر 11 سنة لتصبح فيما بعد الجارية المفضلة والمحظية لدى الأمير نجم الدين أيوب الذي سيُعرف لاحقا بلقب "الملك الصالح" وهو الذي أطلق عليها اسم "شجرة الدر". أنجبت له ولدا هو "الخليل" لكنه مات صغيرا، وبعد أن استولى ابن عمه على الحكم في مصر، نفاه إلى خارج البلاد فلازمته في قلعة "الكرك" وأظهرت ولاءً شديدا له وهو في محنة السجن. بدهاء غير مسبوق، رسمت للملك المنفي ملامح الانتقام واستعادة العرش المفقود من خلال الاستعانة بالمماليك وتكوين قوة ضاربة من خلال تجنيدهم فنجح بالفعل في العودة إلى حكم مصر.

كافأها الملك بأن تزوجها رسميًا مخالفا التقاليد السائدة ومنحها لقب "الملكة" وبلغت ثقته فيها إلى حد أنه كان يترك لها إدارة شؤون البلاد بصلاحيات كاملة في غيابه وهو يقوم بحملات عسكرية لتوسيع نفوذه.

توفي الملك الصالح في وقت حرج للغاية يتمثل في وصول الحملة الصليبية السابعة إلى الشواطىء المصرية بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع. أظهرت الزوجة الشابة حنكة استثنائية حين أخفت خبر الوفاة عن الجميع باستثناء بعض كبار قادة الجيش حتى لا تضعف معنويات الجنود. وإمعانًا في خطة "الخداع الاستراتيجي" كانت تمنع الزيارات عنه بحجة أنه مريض وتوقع المراسيم بأختامه كأنه لا يزال على قيد الحياة، كما أوصت الخدم بتجهيز طعامه في المواعيد المعتادة.

نجحت الخطة على نحو باهر واندحرت الحملة الصليبية وتم أسر لويس التاسع بدار القاضي "ابن لقمان" بمدينة المنصورة، فأعلنت وفاة زوجها الملك الصالح وأرسلت تستدعى ابنه "توران شاه" ليتولى الحكم خلفا لأبيه. والمدهش أن الملك الجديد تنكر لفضلها وأخذ يلمح إلى استيلائها على خزينة الدولة التي كانت قد فرغت بسبب تجهيز الجيوش كما اضطهد أمراء المماليك الذي صنعوا النصر فكان مصيره القتل على أيديهم.

نادى بها المماليك لتعود إلى الحكم بشكل صريح هذه المرة، فتقربت إلى الرعية وخفضت الضرائب وملأت خزانة الدولة بفدية الملك لويس التاسع كما صفت بقايا الوجود الصليبي بالبلاد. ولم يشفع لها كل هذا، ففكرة وجود امرأة على العرش لم ترق للكثيرين منهم الفقهاء وبعض الرعية والأهم الخليفة "المستعصم" في بغداد الذي كتب إلى أمراء مصر قائلا في تهكم واستنكار: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلا".

أدركت بحسها السياسي العالي أنها يجب أن تنحني للموجة الهادرة، فتزوجت القائد العسكري عز الدين أيبك الذي أصبح ملك البلاد ظاهريًا ولٌقب بـ"الملك العزيز" لكنها كانت من تدير شؤون الدولة من وراء ستار. وحين دبّ الخلاف بينهما وعرفت أن زوجها تقدم لخطبة ابنة "الملك الرحيم" بدر الدين لؤلؤ بالموصل لدعم نفوذه، اعتبرت الأمر خيانة تستوجب القتل وهو ما نفذته بالفعل.

لم يصدق العامة ما أشاعته حول أنّ الملك مات ميتة طبيعية وثاروا عليها وتم تنصيب ابن الملك "نور الدين علي" ملكا جديدا وعمره 15 عاما. ووقعت شجرة الدر في الأسر ثم سلمها الملك المراهق إلى أمه "أم علي" التي أمرت الجواري بتجريدها من ملابسها وسبها بأبشع الألفاظ ثم ضربها بالأحذية الخشبية التي يرتديها العامة في الحمامات الشعبية والمعروفة باسم "القباقيب".

لفظت أنفاسها وألقي بجثمانها من أعلى القلعة دون أن تدفن لكن بعد العثور على الجثمان تم نقله إلى ضريح كانت قد بنته لنفسها قرب مشهد السيدة نفيسة بالقاهرة. ويقال إن طبق الحلوى الشهير "أم علي" يعود أصله إلى السيدة "أم علي" التي أرادت الاحتفال بمقتل شجرة الدر من خلال خلط الحليب بالدقيق مع السكر والمكسرات وتقديمه للناس ابتهاجا بتلك المناسبة.

يقول المقريزي: "كانت شجر الدُّرّ قد استبدّت بأمور المملكة، ولا تُطلعه عليها، وتمنعه من الاجتماع بأم ابنه، وألزمته بطلاقها، وَلم تُطلعه على ذخائر الملك الصَّالح. فأقام الملك المعزّ بمناظر اللوق (بعيدا عن القلعة) أيامًا حتى بعثت شجر الدُّرّ من حلف عليه. فطلع القلعة وقد أعدت لَهُ شجرة الدّرّ خمسة ليقتلوه".