محمد الرخا - دبي - الأربعاء 3 أبريل 2024 11:23 صباحاً - طبيب وفيلسوف في زمن كان فيه الطب والفلسفة ذروة ما يصل إليه العقل الإنساني من نبوغ وفطنة، لكنه كان كذلك مثقفًا موسوعيًّا وعالمًا استثنائيًّا أوتي من تعدد المواهب واتساع قوس الاهتمامات ما جعله يسبق زمانه ويهدي الإنسانية جمعاء اكتشافات فريدة.
هذه الاكتشافات جعلت جامعة السوربون العريقة تحتفل عام 1952 بمرور ألف عام على مولده وتنحت له تمثالًا في رحاب حرمها الشهير تقديرًا لعبقرتيه، أما عملاق البحث "غوغل" فلا يفوته الاحتفاء هو الآخر بذكرى ميلاده في ديسمبر من كل عام.
يُعرف في الشرق بلقب "الشيخ الرئيس" ويُعرف في الغرب بألقاب عديدة منها "أرسطو العرب" و "أمير الأطباء" و"أبو الطب"، توصَّل مبكرًا إلى العديد من الاكتشافات التي تشكل البذرة الأولى في ممارسات الطب الحديث، مثل استعمال التخدير في العمليات الجراحية، وحقن الدواء بالإبر تحت الجلد وهما أهم اكتشافين في الطب الباطني والطب الجراحي.
كما ينسب إليه بأنه أول من وصف دورة حياة الجنين بشكل علمي متطور وقسّم قلبه إلى الأقسام المعروفة في الطب اليوم، فضلًا عن توصله لعلاج حمى "التيفوئيد" بالثلج وهي الطريقة المتبعة حتى اليوم بعد تطويرها.
ولد الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي المعروف بـ"ابن سينا" بمدينة "بخارى"، ضمن جمهورية أوزبكستان حاليًّا، في بيتٍ كان ملتقى لمشاهير رجال العلم كما كان ملتقى سياسيًّا لرجال البلاط في عصر نوح بن منصور الملقب بـ "أمير خراسان".
وأظهر نبوغًا لافتًا في سنٍّ مبكرة للغاية، وهو ما يحكي عنه في سيرته الذاتية قائلًا: "أحضر والدنا لي ولأخي الوحيد معلمًا للقرآن وآخرَ للآداب، ولقد استطعت أن آتي على القرآن حفظًا، وتعلمت الكثير من نصوص الأدب وأنا لم أكمل العاشرة من عمري بعد"، فيما حفظ في تلك السن ألف بيت من الشعر وعشرين رسالة من رسائل الحكماء "الأطباء" والعلماء.
مصاف العباقرة
تميز ببنية جسدية قوية، وحدّة في السمع والبصر وقدرات عقلية تضعه في مصاف العباقرة حتى قطع شوطًا كبيرًا في تحصيل المعارف والعلوم وهو دون العشرين وهو ما يصفه بقوله: "صارت أبواب العلم تنفتح لي، وإنْ أخذتُ أدنى نومة أحلم خلالها بالمسائل التي شغلتني في يقظتي حتى إن كثيرًا منها اتضحت وجوهها في المنام".
بعد وفاة والده، تقلبت بأسرته الأحوال وصار يتنقل من بلد إلى آخر ويعاني شظف العيش وهو المحب لحياة الرغد والمعتاد على الثراء والرفاهية، وقرَّبه بعض السلاطين والأمراء منهم ليكون طبيب البلاط الموثوق مع مهام إدارية أخرى وغضب عليه البعض الآخر ونفوه أو سجنوه نتيجة الوشايات والدسائس.
اتهمه البعض بالكفر والزندقة فرد عليهم ردًّا يحمل الكثير من الكبرياء وعزة النفس وقال: "تكفير مثلي ليس بالأمر الهين، ولا يوجد إيمان أقوى من إيماني، أنا وحيد دهري وأكون كافرًا؟ إذن لا يوجد في العالم كله مسلم واحد".
يُنسب إليه 406 أعمالٍ بالعربية و32 بالفارسية التي كان يجيدها إجادة تامة، حمل أول مؤلفاته وهو في سن 17 عامًا اسم "معتصم الشعراء في العروض"، أما أشهر أعماله فكان: "الشفاء" و"القانون في الطب" و "المعاد"، و"علم التشريح" الذي تُرجم إلى الإيطالية 1562.
ويقال إنه كان يملي على تلميذه 50 صفحة في اليوم الواحد دون أن ينظر في كتاب، إذ كان التأليف بالنسبة إليه نشاطًا يوميًّا روتينيًّا يمارسه حتى وهو حبيس إحدى القلاع أو في وقت فراغه كوزير في البلاط.
شهادات غربية
قال عنه المؤرخ البلجيكي ألفريد جورج ساتون إنه "ظاهرة فكرية عظيمة، ربما لا نجد من يعادله في ذكائه ونتاجه الفكري الذي يعد مرجعًا في الفلسفة في القرون الوسطى، ولست أدري كيف اتفق لابن سينا أن ينتج هذا الإنتاج الضخم وسط حياته القلقة المضطربة، فلم يكتب كتبه في بلد واحد ولا في فترة متصلة ولا في دولة واحدة، وإنما كان يحرر رسائله الصغيرة أثناء رحلاته".
ووصف الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون إرثه الفكري قائلًا: "تحددت الفلسفة باليونانية على يد أرسطو، ثم تحددت بالعربية على يد ابن سينا".