محمد الرخا - دبي - الخميس 28 مارس 2024 10:10 صباحاً - لم يستعصِ الصخر على سكان مدينة معلولا السورية، فحفروا في جبالها بيوتهم الأولى العائدة إلى عدة آلاف قبل الميلاد. تلك المدينة الواقعة على بعد 65كم من دمشق، شكلت لغزاً تاريخياً للعلماء؛ فهي الوحيدة في العالم التي تتحدث الآرامية حتى اليوم، وعلى جدرانها ترك إنسان نياندرتال رسوماته منذ العصر الحجري، وبين صخورها توجد أقدم الكنائس والأديرة والجوامع.
ومعلولا تعني باللغة الآرامية "المدخل"، فهي واجهة لسلسلة من القرى الجبلية الوعرة في القلمون. ترتفع عن سطح البحر 1500م، وفيها الكثير من الكهوف والشقوق الصخرية العميقة، التي طوّعها الإنسان لتصبح ملائمة للسكن الآمن، فهي منيعة ضد الغزاة.
يتفاجأ زائر معلولا، أن سكانها من المسلمين والمسيحيين، يتكلمون الآرامية لغة السيد المسيح فيما بينهم، ويتقنون العربية أيضاً. ويعود الفضل في حماية هذه اللغة من الاندثار، إلى قريتي جبعدين وبخعة القريبتين من المدينة، قبل أن تنشأ معاهد مختصة بتدريس الآرامية ونقلها للأجيال.
آثار معلولا القديمة تعود إلى مئتي ألف سنة قبل الميلاد، عندما قام الإنسان الحجري بنحت الصخور من أجل تشييد المعابد. ثم تعاقبت على المدينة، العصور الآرامية واليونانية والرومانية والبيزنطية وصولاً إلى العربية الإسلامية.
وصنفت الأمم المتحدة، مدينة معلولا ضمن مواقع التراث العالمي عام 1999، ويعتبرها الباحثون في التاريخ، مثالاً للتفاعل والعيش المشترك، بين الحضارات والأديان. وقد دأب السياح والمهتمون بالتاريخ، على زيارتها من كل بقاع العالم منذ سنوات طويلة.
ومن معالم المدينة الشهيرة، دير القديسين سركيس وباخوس، المبني فوق معبد وثني قديم يعود لعدة آلاف قبل الميلاد. ودير مار تقلا، الذي يضم رفات الأميرة تقلا ابنة أحد الأمراء السلوقيين، وتلميذة القديس بولس، الذي وُضع داخل كهف صخري ضخم هربت إليه القديسة وماتت فيه.
للتاريخ نكهة مختلفة في معلولا. فالفجُّ الصخري الذي يشكل ممراً ضيقاً بين الجبال، يعتبر وجهة السياح المفضلة، وقد أخذ بعداً أسطورياً ودينياً كبيراً عند أهالي المنطقة، خاصة ساقية الماء المتدفقة من بين الصخور؛ إذ يقول الناس إنها تشفي من جميع الأمراض.
وتقول الرواية التاريخية، إن الفضل يعود لهذا الممر الصخري القاسي، في حماية القديسة تقلا، حيث لم يتمكن الجنود الرومان من اللحاق بها وقتلها، فعبرت إلى الجانب الآخر من الجبل بسلام إلى حيث أقيم الدير.
وتنتشر في جانبي هذا الممر الصخري الضيق، كهوف على شكل غرف محفورة بالصخر، تعتبر من عجائب الإنسان والطبيعة. وقد استخدمت كخلوات للعبادة والتأمل في المراحل المختلفة من التاريخ.
سمّى العرب معلولا بالنشيطة، نظراً لمناخها اللطيف ومائها العذب. فهي مكان مثالي خلال الصيف، وفي الشتاء تكللها الثلوج مع سلسلة جبال القلمون التي تعتبر معلولا بوابتها الفريدة.
وكان لمدينة معلولا، سور ضخم يحميها من العدوان، وفيها تنتشر معاصر الزيتون والعنب والزبيب القائمة حتى الآن. ويشير بناء الجامع المربع العائد لفترات الحضارة الإسلامية الأولى، إلى حجم التسامح في المدينة.
يقول الباحث التاريخي الدكتور عبد الوهاب أبو صالح لـ"الخليج 365": "تختزل مدينة معلولا كل مراحل التاريخ، ففيها معالم من كل مرحلة، وقد تشارك في بنائها الإنسان مع الطبيعة، منذ إنسان نياندرتال حتى اليوم".
وتقام في معلولا، أعياد دينية سنوية يحضرها الزوار من كل بقاع العالم، مثل عيد الصليب في الرابع من سبتمبر، وعيد القديسة تقلا في الرابع والعشرين منه، وعيد القديسين سركيس وباخوس في السابع من أكتوبر، ويتلاقى في تلك المناسبات، الزوار من مختلف الأديان ويفدون من أوروبا وجميع أنحاء سوريا.
ويقول الباحث التاريخي الياس نصر الله، في كتابه "معلولا.. حكاية وقدسية الأرض واللسان": "إن تاريخ معلولا يبدأ قبل 250 ألف سنة، مع الإنسان الحجري الذي لا تزال آثاره موجودة، ثم تعاقبت عليها الحضارات".